في كانون الثاني/ يناير الماضي، قُتل وجُرح 17 شخصاً، بينهم أطفال، بسبب الألغام والذخائر غير المنفجرة في اليمن، وفق بيانات مشروع مراقبة الأثر المدني (CIMP). ويتوقع المشروع أن يكون العدد الإجمالي لضحايا هذه الانفجارات الأعلى عام 2024.
وتكشف أحدث بيانات أصدرتها منظمة “أنقذوا الأطفال”، أن الفترة بين عامي 2018 و2022، شهدت ارتفاعاً مقلقاً في عدد الأطفال ضحايا الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة، من طفل واحد كل خمسة أيام، إلى طفل واحد كل يومين.
كما توضح البيانات أن الأطفال هم الأكثر عرضة لخطر هذه الألغام والذخائر مقارنة بالبالغين، إذ يشكلون أكثر من نصف الضحايا في اليمن.
وسقط حوالى 20 بالمئة من الضحايا الأطفال في الحرب اليمنية نتيجة حوادث الألغام والذخائر غير المنفجرة. وسجلت محافظات الحديدة وتعز وصعدة أعلى عدد من هذه الحوادث، وفق بيانات “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن”.
يؤكد التحالف أن جماعة الحوثيين “مسؤولة عن نحو 72 بالمئة من حوادث انفجار الألغام الأرضية في مختلف أنحاء اليمن، بينما تتوزع النسبة المتبقية بين جماعات مجهولة أو خارجة عن القانون”.
ويضم “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن” 10 منظمات ومراكز حقوقية ترصد بيئة حقوق الإنسان في اليمن، الذي تعرّض لانتهاكات خطيرة بسبب الحرب بين جماعة الحوثي التي سيطرت على العاصمة صنعاء وأنحاء واسعة من البلاد، وبين الحكومة المعترف بها دولياً، التي تتّخذ من عدن مقراً مؤقتاً لها.
وفيما فقد كثر من الأطفال حياتهم بسبب الألغام، هناك ناجون يتعايشون مع إصابات بالغة تتراوح بين أطراف مبتورة، وبصر مفقود، وتشوهات جسدية، وكسور وجروح خطيرة، ما يجعلهم يدخلون في رحلة علاج طويلة ومرهقة لهم ولعائلاتهم، في ظل نقص إمكانات المستشفيات وعدم استتباب الأمن في اليمن.
عائلة مهند تجاهلت إصابته بالشظية معتقدة أنها طفيفة ولن تشكل خطراً على حياته، إلا أن حالته الصحية تدهورت بسرعة بعد ساعات قليلة من إصابته، ما استدعى نقله إلى المستشفى، حيث وجد الأطباء الشظية التي تسبّبت في مضاعفات خطيرة أدت في النهاية إلى وفاته بعد عام من المعاناة.

صورة الطفل مهند مبارك العقيلي بعد الإصابة
أما الطفل سيف بسام الجلة (7 سنوات)، فقد احتاج إلى عدد من العمليات الجراحية للتخلص من شظايا استقرت في جسده جراء انفجار لغم أرضي بالقرب منه.
وكان سيف يلهو مع أصدقائه في مخيم النور بمدينة مأرب، عندما وجدوا جسماً غريباً سرعان ما انفجر، ما أدى إلى إصابة سيف بجروح خطيرة في الأمعاء.

صورة الطفل سيف بسام الجلة بعد الإصابة
ووثّق التحالف قصة الطفل حسین (13 عاماً) من مأرب، الذي خرج في 3 حزيران/ يونيو 2023 من منزله لیحضر الماء لعائلته من محطة وقود قريبة. وبینما كان يقف في طابور مع خمسة أطفال آخرين، التقط طفل منهم قذيفة عیار 23 ملیمتراً كانت على الأرض، وألقاها نحو الأطفال الذین كانوا ينتظرون دورهم للحصول على الماء. فارتطمت القذيفة بجسم صلب وانفجرت، مسبّبةً جروحاً للأطفال بسبب تطاير الشظايا. وكان حسین أشدّهم إصابة،إذ عولج من كسور في ساقة اليسرى تسببت له في إعاقة دائمة.
أما عبد العزيز (12 عاماً) الذي وثّق التحالف قصته أيضاً، فقد كان يعمل مع عمه في مغسلة سيارات، وفي التاسع من حزيران 2023، وجد قذيفة غير منفجرة قريبة من المكان، فعبث بها حتى انفجرت، مسبّبة له حروقاً ونزيفاً في رأسه، ما أدى إلى بتر أحد أصابع يده.
ومن ضحايا الألغام أيضاً، الطفلة ندى منصور (12 عاماً) من محافظة تعز، والتي وثّق التحالف ما حصل معها حين ذهبت لجمع الحطب الذي يستعاض به عن الغاز بسبب ظروف الحرب في البلاد. إذ انفجر لغم أرضي قربها، أدى إلى إصابتها بجروح خطيرة، أفقدتها يدها اليمنى وعينها اليسرى، كما أصيبت بجروح في قدمها.
تقول ندى في شهادتها للتحالف، إنها لا تتذكر سوى أن الحرب في اليمن أخذت منها يدها، فأصبحت لا تستطيع الكتابة ولا صناعة الدمى كما كانت تفعل من قبل.
عائلات الضحايا… ألم وتهميش
نزح اليمني صالح خالد صبر إلى مخيم السويداء بمدينة مأرب، وأقام مع عائلته في خيمة في ظروف إنسانية صعبة. فكان على موعد مع مأساة مؤلمة أخرى حين ذهبت زوجته لإحراق القمامة رفقة طفليه وشقيقه الأصغر، وفق بيانات التحالف، وفجأة وقع انفجار عنيف ذهب ضحيته طفله عبد الحميد وابنته تواضع وشقيقه عمر.
يقول صالح إن “فقدان الأطفال هو أشد وجع يمكن معايشته”. وبحرقة، يذكر ابنه عبد الحميد الذي كان يلقّب بـ “الدكتور”، وابنته تواضع التي كانت “الأستاذة “، وشقيقه عمر الذي كان يناديه “الشيخ”، مع إصراره على ضرورة “فتح ملف الألغام ومحاسبة مرتكبي الجريمة، لأنها لا تزال مستمرة وتحصد الأرواح يومياً”.
في هذا الإطار، تقول إشراق المقطري، عضوة اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان في محافظة تعز، إن “مسألة المحاسبة والمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان تعد آلية ضرورية ومهمة، بخاصة مع كثرة انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن”.
وتضيف أن “هذه الآلية ستساهم بشكل كبير جداً في الحد من الإفلات من العقاب، ومنع تكرار مثل هذه الانتهاكات، وتعتبر أول مطالب الضحايا، بخاصة الذين تعرضوا لانتهاكات جسيمة طاولت الحق في الحياة والسلامة الجسدية، وأدت إلى أعمال القتل والتشويه، إذ إن هناك ارتفاعاً في نسبة الوعي لدى الضحايا بسبب قوة ألم المعاناة التي يمرون بها”.
حال صالح لا تختلف عن حال حميد يحيى من مخيم السويداء في مدينة مـأرب، وهو والد لثلاثة أطفال انفجر بهم لغم أثناء عودتهم من المدرسة العام الماضي. توفي اثنان منهم على الفور، فيما نجا الثالث لكنه فقد يده اليمنى وعينه، وانتشرت شظايا اللغم في أنحاء جسده.
صالح وحميد وأفراد عائلات أخرى ممن فقدوا أطفالاً أو يرعون أطفالاً مصابين، يرفعون أصواتهم مطالبين المجتمع الدولي بـ “التدخل وإيقاف هذه الجريمة عبر استخراج خرائط الألغام ونزعها”.
كما تطالب العائلات بـ “محاسبة كل المتسببين بهذه الماساة، وتقديم المساندة والعلاج للضحايا، وإعادة تأهيلهم وتوفير متطلباتهم، والوقوف معهم بكل أشكال الدعم”.
في المقابل، تعبّر هذه العائلات دائماً عن “خيبة أمل” من مستوى التهميش الذي تعيشه محلياً ودولياً، وفق ما يرصده التحالف، بخاصة أن سنوات عدة مرت على معاناتهم من دون تقديم أية حلول أو خطوات عملية ملموسة.
يقول صالح الغانمي من مؤسسة سد مأرب للتنمية الاجتماعية، وهي مؤسسة محلية تساند ضحايا الألغام في محافظة مأرب، إن عائلات الضحايا “يشعرون بالخذلان، ويريدون من مجتمع المنظمات الإنسانية الوقوف إلى جانبهم، ونحن نقدر معاناتهم ونساندهم بكل ما نستطيع”.
ألغام عشوائيّة
قصص سيف ومهند ليست سوى مثال عن مآسي لم تجد طريقها إلى توثيق دقيق يكشف تفاصيل كل حالة، ويحدد حجم الكارثة بالأرقام والبيانات. إذ يعمل التحالف والمنظمات العشر المنضوية فيه في ظروف غير آمنة ويتعاملون مع تحديثات معقّدة لتوثيق الانتهاكات في هذا الملف.
يقول خالد الشجني، مساعد مدير الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في مأرب، وهي وحدة تتولى إدارة وتشغيل وتنظيم العمل مع المنظمات في كل ما يخص النازحين في اليمن، إن الألغام “تحصد الأرواح بشكل مستمر” في المحافظة، مضيفاً أنها “مزروعة بشكل عشوائي، وهناك ضحايا على الطرقات، مثل طريق حريب- مأرب، وفي مخيمات النزوح وفي الأودية والأراضي الزراعية”.
يشير الشجني إلى أن محافظة مأرب تحتضن 204 مخيمات للنازحين المدنيين، وتسكنها 263 ألف عائلة نازحة من كل المحافظات اليمنية.
ويطالب محمد الغليسي، وهو راصد في اللجنة الوطنية للتحقيق في إدعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، جماعة الحوثيين بـ “التوقف عن زراعة الألغام، وتسليم خرائطها حتى يتم نزعها وتطهير المناطق التي تنتشر فيها”.
كما يرى الغليسي ضرورة في أن يضاعف المجتمع الدولي الضغط على الحوثيين لـ “تسليم الخرائط، وتكثيف برامج التوعية بخطر الألغام، وتشجيع وتمويل برامج تأهيل الضحايا ومعالجة الأضرار، فالضحايا “بحاجة ماسة الى التأهيل والمساندة والتعويض”.
واللجنة هي آلية وطنية للرصد والتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في اليمن من جميع الأطراف. وأنشئت بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وقرار مجلس الأمن رقم 2051 لسنة 2012، والقرار رقم 2140 لسنة 2014، وقرارات مجلس حقوق الإنسان ذات الصلة.
“أكبر حقل ألغام”
ومنذ عام 2015، رُصدت عمليات زراعة ألغام مهولة، وتسبّبت الحرب في انتشار الذخائر غير المنفجرة في اليمن. إذ يكشف تحلیل أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسیق الشؤون الإنسانیة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، إلى أن عدد المدنيين الذين قتلوا أو أصيبو بسبب مخلفات الحرب المتفجرة في اليمن ارتفع بنسبة 20 بالمئة منذ بدء الهدنة في نيسان/ أبريل 2022، مقارنة بالأشهر الستة التي سبقت ذلك.
يقول أمين العقيلي، مدير البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام، في تصريح صحافي سابق، إن “البرنامج والشركاء نزعوا أكثر من مليون و250 ألف لغم وعبوة متفجرة منذ العام 2015 وحتى نيسان الماضي”.
وكانت السفارة الأميركية في اليمن قالت في تغريدة على منصة ” إكس” في 4 نيسان الماضي، لمناسبة اليوم الدولي للتوعية بمخاطرالألغام، إن “ميليشيا الحوثي الإرهابية زرعت أكثر من مليوني لغم في اليمن، ما حوّله الى أكبر حقل ألغام على الإطلاق، وسيستغرق الأمر ثماني سنوات لإزالتها كلياً”.
حلول
وتمكّن “تحالف ميثاق العدالة من أجل اليمن” الذي يوثّق البيانات حول ضحايا الألغام والذخائر غير المنفجرة، من صياغة حلول يمكن الاسترشاد بها لإنهاء هذا الخطر وحماية أرواح المدنيين، بخاصة الأطفال.
وتتلخص مقترحات التحالف بضرورة “تشجيع البحث والابتكار لتطوير تقنيات الكشف عن الألغام وإزالتها في اليمن”، ناهيك بأهمية تعزيز أدوات المساءلة والعدالة وتعويض الضحايا وعائلاهم، وإنشاء آلية تحقيق مستقلّة في الانتهاكات، ورصد مستويات التقدّم في هذا الملف.
وأكد التحالف أن هذه الحلول لن تكون فعالة إلا بتقديم خرائط تفصيلية عن مواقع الألغام الأرضية عبر إدارج هذه القضية في مفاوضات واتفاقيات السلام بين المتخاصمين في اليمن، مطالباً بإطلاق مبادرات تعاون دولي مبني على تفعيل المعاهدات الدولية في اليمن لإزالة الألغام في مختلف أنحاء البلاد.
كما نوّه التحالف إلى أهمية إطلاق برامج وجهود تركز على توعية المدنيين في اليمن بمخاطر الألغام، ومساعدة الضحايا وإعادة تأهيلهم.
وصدّق اليمن عام 1998 على اتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، وبموجب ذلك كانت الحكومة مطالبة بتدمير مخزون الألغام المزروع خلال 10 سنوات. لكن الحكومة اليمنية تقدمت بأربعة طلبات لتأجيل التزاماتها بموجب المادة الخامسة من الاتفاقية، وآخر تمديد مُنح حتى آذار/ مارس 2028.
يأتي ذلك بالتزامن مع ما كشفه فريق خبراء الأمم المتحدة عن انتهاكات للقانون الإنساني الدولي تتصل باستخدام الألغام عشوائياً في البلاد، وفق تقارير للتحالف.
ويؤكد التحالف، الذي يضم 10 منظمات حقوقية يمنية، أن قضية الألغام لا تزال تهدد أرواح المدنيين، ويقول فريق الخبراء فيه: “إن لم تكن هناك جهود جماعية لإنهاء هذه الخطر، فإن أطفالاً آخرين سيُقتلون، وستفقد عائلات أحباءها، وسيعيش الناس في اليمن خوفاً من احتمال أن ينفجر فيهم لغم أرضي في أي لحظة.
تم نشر هذه القصة على موقع درج https://daraj.media/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%A3%D9%83%D8%A8%D8%B1-%D8%AD%D9%82%D9%84-%D8%A3%D9%84%D8%BA%D8%A7%D9%85-%D9%85%D8%B9%D8%B8%D9%85-%D8%B6%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D9%85%D9%86-%D8%A7/